الدلالات اللغوية لبعض ألفاظ الآية الكريمة:
بالنسبة للفعل( يشرح) في قول الحق( تبارك وتعالي): يشرح صدره فإن( الشرح) في اللغة هو الكشف والبسط وإظهار الغامض والخافي من المعاني. يقال
شرح) المشكل أو الغامض من الأمر( يشرحه)( شرحا) أي فسره, وبسطه, وأظهر ما خفي من معانيه, و(شرح) الله صدره للإسلام( فانشرح) أي انبسط في رضا وارتياح للنور الإلهي والسكينة الروحية لأن من معاني( شرح) الصدر توسعته.
أما عن( الصدر الضيق الحرج) فأصل( الحرج) و(الحراج) مجتمع الأشياء من مثل الشجر ونحوه, ومن هنا تصور منه ضيق ما بينها, فقيل للضيق( حرج), وللإثم( حرج) واستخدام فعل( التحريج) بمعني التضييق, ويقال للغيضة الملتفة الأشجار التي يصعب دخولها
حرجة), وعلي ذلك فإن( الحرج) في اللغة هو الضيق بل ضيق الضيق, يقال مكان( حرج) ــ بكسر الراء وفتحها ــ أي ضيق كثير الشجر, و(الحرج) و(الحرج) أيضا الإثم, يقال
أحرجه) بمعني آثمه, و( تحرج) أي تأثم, و(حرج) عليه الشئ أي حرم عليه, و(المنحرج) المتجنب من الحرج والإثم, ويقال
حرج) صدره( حرجا) فهو( حرج) أي ضاق ضيقا شديدا. وأما عن( التصعد في السماء) فالتصعد والتصاعد والصعود هو الذهاب إلي المكان العالي أو الارتفاع, وهو ضد الحدور, يقال
صعد) بالكسر( يصعد)( صعودا) في السلم أي ارتقاه ارتقاء, و(صعد)( يتصعد) في الجبل, و(تصعد)( يتصعد) أي ارتفع عليه وعلاه, و(أصعد) في الأرض( صعودا) أي مضي وسار في مناكبها والصعود أيضا العقبة الشاقة الكئود ويستعار لكل شاق وأصعد في الوادي و(صعد) فيه( تصعيدا) أي انحدر معه, ولو أن الصعود أصلا ضد الهبوط, وهو و(الصعد) والصعيد واحد, ويقال عذاب( صعد) أي شديد و(الصعيد) هو أيضا ما يصعد إليه, و(الصعداء): تنفس ممدود, ويقال( تصعد) النفس بمعني صعب مخرجه, ويقال
يصعد) وأصلها( يتصعد) أي يتكلف الصعود, فلا يستطيعه, و(تصعد) أيضا تستخدم بمعني شق من المشقة و(الإصعاد)= الإبعاد في الأرض سواء كان في صعود أو حدور( هبوط); و(الصعد) الشاق أو المشقة ويقال
تصعدون) أي تذهبون في الوادي هربا من عدوكم من( الإصعاد) وهو الذهاب في صعيد الأرض, والإبعاد فيه, يقال
أصعد) في الأرض إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه فهو( مصعد).
الدلالات القرآنية لبعض ألفاظ الآية الكريمة:
جاء الفعل( شرح) بتصريفاته في أربعة مواضع من القرآن الكريم بالإضافة إلي الآية الكريمة التي نحن بصددها علي النحو التالي: (1) أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو علي نور من ربه....*( الزمر:22) (2) ألم نشرح لك صدرك*( الشرح:1) (3) قال رب اشرح لي صدري*( طه:25) (4).. ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم*( النحل:106)
وجاءت لفظة( حرج) في خمسة عشر موضعا بمعني الضيق في التشريع, أو شدة الضيق بصفة عامة, كما جاءت بمعني الإثم أو الذنب. أما الفعل( صعد) بمشتقاته فقد جاء في تسعة مواضع من كتاب الله( تعالي) بمعني الأرتفاع, والقبول, والرضا من الله( سبحانه وتعالي), وبمعني الذهاب في الوادي, والمضي فيه هربا, وبمعني تكلف الصعود بمشقة بالغة, فلا يستطيعه, وبمعني شديدا صعبا, وبمعني العقبة المرتفعة الشاقة المصعد, وبمعني وجه الأرض البارز سواء كان ترابا أو غيره, وقيل التراب ذاته.
أما لفظة( السماء) فقد جاءت في ثلاثمائة وعشرة مواضع من كتاب الله, منها مائة وعشرون بالإفراد( السماء), ومائة وتسعون بالجمع( السماوات), وصيغة الجمع توحي ببقية الكون في مقابلة الأرض, بينما الإشارات المفردة بلفظ( السماء) جاءت في ثمانية وثلاثين موضعا بمعني الغلاف الغازي للأرض بصفة عامة, والجزء الأسفل منه بصفة خاصة( أو ما يعرف باسم نطاق التغيرات المناخية أو نطاق الرجع) والذي يحتوي غالبية مادة الغلاف الغازي للأرض, وجاء لفظ( السماء) أيضا بالإفراد في أثنين وثمانين موضعا يفهم الغالب منها علي أنه السماء الدنيا التي زينها ربنا( تبارك وتعالي) بالكواكب والنجوم والبروج, ويفهم منها مجموع السماوات قبل فصلها إلي سبع, وبعد فصلها في بعض المواضع. كذلك جاءت الإشارة في القرآن الكريم إلي( السماوات والأرض وما بينهما) في عشرين موضعا, ويفهم هذا التعبير علي أن المقصود منه هو الغلاف الغازي للأرض بصفة عامة, والجزء الأسفل منه بصفة خاصة, وذلك لقول الحق( تبارك وتعالي): (... والسحاب المسخر بين السماء والأرض...*) (البقرة:164)
والسحاب يتحرك في نطاق الطقس, والقرآن الكريم يشير في أكثر من آية إلي إنزال الماء من السماء, وواضح الأمر أن المقصود بالسماء هنا هو السحاب. فإذا كان المقصود بالسماء في قول الحق( تبارك وتعالي): كأنما يصعد في السماء هو الغلاف الغازي للأرض فإن لذلك صعوباته ومشاقه التي تصل إلي حد الاستحالة, وإذا كان المقصود هو السماء الدنيا فإن الصعوبات والعقبات تتضاعف أضعافا كثيرة حتي تصل إلي ما فوق الاستحالة, وذلك لأن الله( تعالي) قد حدد للإنسان نطاقا معينا من الأرض وغلافها الغازي تتواءم فيه ومعه بنيته الجسدية, ووظائف أعضائه المختلفة, وإذا خرج عن هذا النطاق فإنه يحتضر ويموت, كما يموت السمك إذا أخرج من الماء, ويتضح ذلك جليا من دراسة الصفات الطبيعية والكيميائية لنطق الغلاف الغازي للأرض.
شروح المفسرين للآية الكريمة:
في تفسير الآية الكريمة التي نحن بصددها ذكر ابن كثير( يرحمه الله) ما نصه: يقول تعالي
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام أي ييسره له وينشطه ويسهله لذلك, فهذه علامات علي الخير, كقوله تعالي( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو علي نور من ربه) الآية, وقال تعالي
ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم), وقال ابن عباس معناه يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به, وهو ظاهر. سئل رسول الله( صلي الله عليه وسلم): أي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم ذكرا للموت وأكثرهم لما بعده استعدادا, وسئل عن هذه الآية( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) قالوا: كيف يشرح صدره يارسول الله؟ قال: نور يقذف فيه, فينشرح له وينفسح, قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلي دار الخلود, والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل لقاء الموت.. وقوله تعالي( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا) حرجا بفتح الحاء والراء, وهو الذي لا يتسع لشئ من الهدي, ولا يخلص إليه شئ من الإيمان ولا ينفذ فيه, وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا من الأعراب من أهل البادية من مدلج عن الحرجة؟ فقال: هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شئ, فقال عمر رضي الله عنه: كذلك قلب المنافقين لا يصل إليه شئ من الخير; وقال ابن عباس: يجعل الله عليه الإسلام ضيقا والإسلام واسع, وذلك حين يقول
وما جعل عليكم في الدين من حرج) يقول: ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق, وقال مجاهد والسدي
ضيقا حرجا) شاكا, وقال عطاء الخراساني
ضيقا حرجا) أي ليس للخير فيه منفذ, وقال ابن المبارك
ضيقا حرجا) بلا إله إلا الله حتي لا تستطيع أن تدخل قلبه,( كأنما يصعد في السماء) من شدة ذلك عليه, وقال سعيد بن جبير
يجعل صدره ضيقا حرجا) لا يجد فيه مسلكا إلا صعد, وقال عطاء الخراساني
كأنما يصعد في السماء) يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد إلي السماء, وقال ابن عباس: فكما لا يستطيع ابن آدم ان يبلغ السماء, فكذلك لا يستطيع ان يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتي يدخله الله في قلبه, وقال الأوزاعي: كيف يستطيع من جعل الله صدره ضيقا ان يكون مسلما; وقال ابن جرير: وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة ضيقه عن وصول الإيمان إليه يقول: فمثله في امتناعه عن قبول الإي مان وضيقه عن وصوله إليه مثل امتناعه عن الصعود إلي السماء وعجزه عنه, لأنه ليس في وسعه وطاقته.... وقال صاحب تفسير الجلالين( يرحمهما الله) شيئا مختصرا عن ذلك وذكر كل من صاحب( صفوة البيان لمعاني القرآن) ـ يرحمه الله ـ وصاحب صفوة التفاسير( أمد الله في عمره) شيئا مشابها أيضا.
وذكر صاحب الظلال( يرحمه الله): من يقدر الله له الهداية ــ وفق سنته الجارية من هداية من يرغب في الهدي ويتجه إليه بالقدر المعطي له من الاختيار بقصد الابتلاء ــ( يشرح صدره للإسلام), فيتسع له, ويستقبله في يسر ورغبة, ويتفاعل معه, ويطمئن إليه, ويستريح به ويستريح له. ومن يقدر له الضلال ــ وفق سنته الجارية من إضلال من يرغب عن الهدي ويغلق فطرته عنه ــ( يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء).. فهو مغلق مطموس يجد العسر والمشقة في قبوله,( كأنما يصعد في السماء).. وهي حالة نفسية تجسم في حالة حسية, من ضيق النفس, وكربة الصدر, والرهق المضني في التصعد الي السماء!